حاوره / حسين السعدي :
مقدمة:
في زمنٍ تُختبر فيه قدرة الشعوب على النهوض رغم الركام، تلمع شموع في العتمة ترفض أن تنطفئ، وتظلُّ تؤمن أن التربية ليست مجرد منهج مدرسي، بل رسالة حياة ومقاومة حضارية. من بين تلك الشموع المتقدة، يبرز مجمع النصر التربوي والتعليمي في لبعوس – يافع، كصرح تربوي عصيٍّ على الانكسار، يشهد على قوة الإرادة المجتمعية حين تتكفّل ببناء الجيل. في هذا الحوار، نستضيف الدكتور صالح يحيى صالح دقش، المشرف العام للمجمع، لنغوص في أعماق التجربة، ونُصغي لحكاية النهوض من العدم.
1. في ظل سياسة الهدم التي مارسها المحتل اليمني منذ 1994، هل رسمتم استراتيجية تعيد للتعليم مجده كما كان قبل الوحدة؟
منذ اللحظة الأولى أدركنا أن الحرب على التعليم ليست مجرد قرار سياسي، بل محاولة لتجريف الوعي وسلب الهوية، ولذا كان الرد أن نبني، أن نُعلِّم، أن نُنشئ جيلًا لا يُخدع بشعارات الطغيان ولا يُباع في أسواق الجهل. استراتيجيتنا انطلقت من قراءة عميقة للتاريخ، حيث كانت المدرسة في الجنوب رمزًا للانضباط والكرامة والمعرفة النزيهة.
استلهمنا من ماضينا العريق أصالة الرؤية، ولكننا لم نبقَ هناك. دمجنا تلك القيم بنظرة مستقبلية، فجمعنا بين الجدية والحرية، بين الصرامة الأخلاقية والانفتاح العلمي. أردنا أن نُحيي المدرسة كأداة للنهوض، لا كروتين إداري. وضعنا خططًا تتعامل مع الإنسان أولاً: مع الطالب بوصفه مشروع نهضة، ومع المعلم كعمود روحي، ومع المجتمع كشريك لا كممول فقط.
2. ما أبرز المعوّقات التي تواجه المجمع اليوم؟
التحديات ليست قليلة، لكنها لم تكن يومًا مبررًا للتراجع. كل يوم نبدأه على يقين أن رسالتنا أكبر من العقبات. المعوق الأشد قسوة هو غياب التوظيف الرسمي، فنحن نُسيّر مؤسسة تعليمية بحجم دولة، بكوادر متطوعة تعيش على الحماس والإيمان. لا توجد ميزانيات حكومية، ولا بنود دعم مستقر، ومع ذلك، ما زال الصف مفتوحًا، والطبشور يكتب، والعلم يُرفع.
الأهالي أثبتوا أنهم شركاء لا مشاهدين، فتكفلوا برواتب أكثر من 70 موظفًا، في مشهد من أروع ما يمكن أن يُقال عن التضامن المجتمعي. لكن لا تزال هناك معاناة في البنية التحتية، في ضيق الفصول، في نقص الوسائل التعليمية، وفي غياب الرعاية المؤسسية التي يفترض أن توفّرها الدولة. ومع هذا كله، فإننا لا نُدير مؤسسة، بل نحمل شعلة، ونمضي بها مهما اشتد الظلام.
3. الغش أصبح ظاهرة مقلقة في واقع التعليم، كيف واجهتم هذه الآفة؟
الغش ليس فقط انحرافًا فرديًا، بل هو سرطان تربوي يُفقد المجتمع مناعته الأخلاقية. نحن في مجمع النصر قررنا أن نواجهه لا بالوعظ فقط، بل بالتغيير العميق في الثقافة التعليمية. أعدنا تعريف الامتحان كمرآة للضمير، لا كمجرد وسيلة للنجاة. رفعنا شعار "لا قيمة لنجاحٍ لا يُعبّر عن جهد"، وطبقناه عمليًا.
قمنا بإجراءات صارمة لضبط الامتحانات، لكننا في الوقت ذاته عملنا على غرس قيم الصدق في الوجدان الطلابي. كانت الإذاعات المدرسية، والأنشطة التربوية، والمسرحيات الهادفة أدواتنا في هذه المعركة، حتى أصبحت ثقافة "النزاهة" جزءًا من هوية المجمع. كل طالب يعرف اليوم أنه هنا ليصنع كرامته، لا ليحصل على رقم مزيف.
4. هل يحظى المجمع بدعم من التربية في المديرية أو المحافظة؟
رغم أن التعليم من صميم مسؤوليات الدولة، فإن الواقع يقول إننا نُركن في رصيف النسيان. لا ميزانيات تُرصد، ولا موظفين يُعينون، ولا دعمًا مستمرًا نحظى به. تأتي بعض الزيارات البروتوكولية من حين لآخر، لكنها لا تحمل معها سوى المجاملات.
لذا، لجأنا إلى ما هو أصدق: إلى الناس. المغتربون وأبناء المنطقة هم من حملوا المجمع على أكتافهم، وهم من كتبوا سطوره الأولى بالعرق والصبر. هذه المؤسسة لم تبنها الدولة، بل بنوها القلوب، ولهذا هي حيّة، صامدة، عصية على الانهيار.
5. ماذا عن المنظمات؟ هل هناك تعاون معكم؟
للأسف، العلاقة مع المنظمات لا تزال خجولة، مترددة، ومحدودة. نعيش في منطقة جغرافية بعيدة عن دائرة الاهتمام، وربما هذا ما يجعل صوتنا لا يصل كما يجب. تواصلنا مع بعض البرامج مثل "تطوير التعليم"، لكن المسارات البيروقراطية، والتعقيدات الميدانية، تجعل كل شيء بطيئًا، مُحبِطًا.
نحن نوجّه دعوة صريحة للمنظمات الدولية والمحلية: تعالوا وشاهدوا، لا نطلب معجزات، فقط أن تنصفونا، وأن تروا حجم الإنجاز الذي بُني بإرادة لا بمال. نحن مستعدون للتعاون، ولكننا بحاجة إلى نوافذ حقيقية للاتصال والدعم.
6. ما دور رجال الأعمال في دعم المجمع؟
رجال الخير في يافع هم الرصيد الأهم، وهم النبض الذي منح المشروع عمرًا واستمرارية. لا نتحدث هنا عن تبرعات موسمية، بل عن ارتباط روحي، عن رجال رأوا في المدرسة وصية الآباء، واعتبروها وقفًا للكرامة والوعي.
بعضهم ساهم في بناء الفصول، وآخرون في تغطية الرواتب، وغيرهم دعموا الفعاليات والمرافق. هناك من يرسل من الغربة شهريًا، دون أن نطلب. هؤلاء هم الوقود الحقيقي لهذا الصرح، وبدونهم لم يكن المجمع ليصمد ليومٍ واحد.
7. مجلس الآباء – ماذا يمثل لكم؟
مجلس الآباء في مجمع النصر ليس شكلاً إداريًا نعرضه عند التصوير، بل هو العمود الفقري للمؤسسة. إنهم الشركاء الحقيقيون في الرؤية والتنفيذ، الحاضرون في كل تفصيل من حياة المجمع. يشاركون في القرارات، يغطّون العجز، يتابعون الغياب، ويبادرون في الأزمات.
هم من يقفون معنا حين يمرض المعلم، وحين يحتاج الطالب إلى زيٍّ مدرسي، وحين تنكسر شُباك الصف. لقد تحوّل المجلس إلى روح حية، لا تغيب عن صباحات المدرسة ولا عن ليل التحديات.
8. كيف تنعشون الحياة الطلابية داخل المجمع؟
نحن نؤمن أن التعليم ليس نصًا جامدًا، بل حياة تُعاش. لذلك حرصنا على أن يكون المجمع فضاءً رحبًا للفرح والتفكير والإبداع. نظّمنا أنشطة ثقافية أسبوعية، ومسابقات تنافسية، وعروضًا مسرحية تعبّر عن قضايا الوطن والهوية، إلى جانب الفعاليات الوطنية والدينية التي تُعزّز روح الانتماء.
في الرياضة، أقمنا بطولات متنوعة جعلت الساحات تنبض بالحياة. في كل زاوية من المجمع يوجد نبض، ويوجد حلم. الطالب عندنا لا يأتي ليحفظ، بل ليحيا، ليبدع، ليتأمل. نحن نزرع روح المواطنة لا بالتلقين، بل بالممارسة اليومية.
9. سؤال كنت تتمنى طرحه؟
كنت أتمنى أن يُطرح سؤال:
ما الذي جعل هذا الصرح يستمر رغم الرياح العاتية؟
والجواب ببساطة: لأننا نؤمن. نؤمن أن التعليم ليس مشروعًا وظيفيًا، بل هو عهد مع الله والناس. لأننا لا نبحث عن مكاسب، بل عن أثر. لأننا لا نتلقى تعليمات من مكاتب سياسية، بل من ضمائرنا.
استمر المجمع لأن وراءه قلوبًا تحب، وسواعد تبني، وأرواحًا تستمد زادها من الحلم الجماعي. نحن نؤمن أن الوطن لا يُبنى بالسلاح وحده، بل بالمدرسة أولاً، وأن التعليم هو أعظم عمل مقاوم في زمن التهميش.
10. ما هي تطلعاتكم التي تنشدونها في مجمع النصر؟
نحن نحلم بمجمع تربوي يُحتذى به، لا فقط في الشرح والانضباط، بل في القيم، في الرسالة، في البنية، في الأداء. نريد لمجمع النصر أن يتحول إلى نموذجٍ يحتذى على مستوى الجنوب كله، بل أن يكون منصة إشعاع تُصدّر تجربة ملهمة لكل المدارس التي تنشأ في قلب التحديات.
نطمح لإنشاء قاعات ذكية، ومختبرات علمية، وأندية فكرية، وتدريب متواصل للكادر، وبرامج نوعية تكتشف المواهب وتحتضنها. نريد ربط التعليم بالحياة، بالبيئة، بالواقع، بالابتكار. نريد أن نُخرّج طالبًا لا يخاف السؤال، ولا يهرب من المسؤولية.
نؤمن أن المجمع يمكن أن يتحول إلى مركز للتنوير المجتمعي، لا مجرد مدرسة. نحلم بأن يزوره التربويون من داخل الوطن وخارجه، ليشهدوا كيف تنهض الجبال حين تعتنق الفكرة.
11. كلمة أخيرة؟
رسالتي للجميع: التعليم هو سلاحنا الأنجع. إن أردنا أمةً لا تُستعمر، فليكن لنا مدارس لا تُشترى. مجمع النصر ليس معجزة، بل ثمرة تعب وتكاتف وصدق نوايا. أدعو كل من يقرأ هذه الكلمات أن يرى في هذا المشروع فرصة للمساهمة، فرب كلمة، أو فكرة، أو دعم، تُحيي حلمًا وتسند جدارًا.
كل الشكر والتقدير للدكتور صالح يحيى صالح دقش
المشرف العام لمجمع النصر التربوي والتعليمي – لبعوس – يافع
على هذا الحوار الذي يحمل بين سطوره ليس مجرد تجربة تعليمية، بل حكاية كفاح تستحق أن تُروى وتُحتذى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق