في هذا الزمن المتعب، حيث يتكئ الجنوب على جراحه، وتتوالى عليه ألوان الوجع، ويضيق الأفق بغيوم الإهمال، يقف التعليم وحيدًا، منسيًّا على قارعة الأولويات.
فبينما تُبنى الدول بعقول أبنائها، وتُشيَّد المجتمعات بسواعد طلابها، يغدو التعليم في جنوبنا الغالي مجرد شعار تُرفَع به التقارير، لا واقع يُصان أو مستقبل يُبنى. والذي يُفترض أن يكون فيه التعليم حقًا مكفولًا لكل طفل، تحوّل هذا الحق إلى حلم بعيد المنال، تتفاوت فيه الحظوظ، وتتعمق فيه الفجوة بين طبقات المجتمع.
لقد أصبح التعليم – الذي يُفترض أن يكون حَجَر الزاوية في بناء الأوطان – ميدانًا منسيًا في سياسات الدولة، ومرفقًا متهالكًا في قائمة الاهتمامات.
وما يزيد الطين بلّة، أن التعليم الحكومي الذي يمثل الأمل الوحيد للفقراء، يعيش حالة من التراجع الحاد والانهيار التدريجي، سواء في بنيته الأساسية، أو في محتواه، أو في كادره البشري، مما ينعكس بشكل واضح وخطير على جودة المخرجات، وعلى مستقبل الطلاب.
ووسط هذا الانهيار، طفت على السطح ظاهرة انتشار التعليم الأهلي والخاص، حتى غدت المدارس الخاصة بمثابة الملاذ الوحيد لأبناء الطبقة الغنية وأبناء المسؤولين. أما أبناء الطبقة الفقيرة – وهم الغالبية الساحقة – فلا خيار لهم إلا البقاء في المدارس الحكومية، رغم حالها المزري، وتدهورها المستمر ، وبيئتها الطاردة.
وهنا تُطرح تساؤلات مؤلمة:
- هل التعليم الأهلي ساهم في تخفيف العبء عن التعليم الحكومي،
أم عزّز الفجوة الطبقية وكرّس التمييز التعليمي؟
- هل نحن أمام نظامين تعليميين في وطن واحد: تعليمٌ مترف للنخب، وتعليمٌ مشلول للفقراء؟
- هل التعليم حق لأبناء المسؤولين وأبناء ورؤوس الأموال فقط؟
أم أنه حق لكل طفل، مهما كان فقره أو موقعه الجغرافي؟
إن هذه المفارقة الموجعة، لا تشير فقط إلى خلل إداري أو أزمة تمويل، بل إلى غياب إرادة سياسية حقيقية تجعل من التعليم أولوية وطنية.
فالأصل أن يكون التعليم رافعة مجتمعية، وعدالة شاملة، لا سوقًا طبقية يتفوق فيها القادر، ويتخلف فيها الفقير قسرًا.
إن هذا التفاوت في فرص التعليم يعمّق الفجوة الطبقية، ويؤسس لمجتمع منقسم، لا تسوده العدالة، ولا يجد فيه الفقير ما ينهض به أو يدافع به عن كرامته.
ومن هذا التفاوت الإضراب الواسع الذي شهده العام الدراسي 2024/2025م، ليشكّل ضربة قاصمة لما تبقى من العملية التعليمية في المدارس الحكومية, وبينما المدارس الأهلية لم يشملها الإضراب .
ولست هنا في موقف مناوئ للتعليم الأهلي، ولا أدعو إلى اجتثاثه أو التقليل من شأنه، فهو جزء من منظومة تعليمية شاملة ينبغي أن تواكب تطورات العصر وتلبّي احتياجات المجتمع.
لكن الواجب أن يُراعى ميزان التوازن بين التعليم الحكومي والتعليم الأهلي ، وأن تُبسط العدالة التعليمية على امتداد شرائح المجتمع، فلا يصبح العلم حكرًا على المقتدرين، ولا يتحول إلى امتياز طبقي يُحرَم منه أبناء البسطاء.
إن التعدد في أنماط التعليم يجب أن يُسخَّر لخدمة الوطن، لا لتعميق انقساماته.
إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى وقفة ضمير، وإلى مراجعة وطنية شاملة تعيد الاعتبار للتعليم، وتُنقذ أبناءنا من دوّامة الإحباط والجهل والتمييز.
ولن يتحقق هذا الحلم إلا بإرادة جادة من المجلس الرئاسي والحكومة الموقرة ، تُعيد للتعليم ألقه، وللمعلم مكانته، وللطالب حقه. فالتعليم ليس رفاهية، بل هو أساس الدولة، وروح الوطن، وصانع الغد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق