في عالم السياسة والمجتمع، تكشف الأزمات عن وجوه الحقيقة، عن نوايا الناس ومواقفهم الخفية التي غالبًا ما تبقى خلف الأقنعة والمظاهر الزائفة. فالمتابع الدقيق لنشاط أغلب النشطاء والسياسيين الشماليين اليوم يلاحظ ما لم يكن واضحًا من قبل؛ حتى أولئك الذين كنا نظنهم "معتدلين" قد كشفت قرارات الرئيس الزبيدي عن وجوههم الحقيقية بشكل صارخ، لتنكشف بذلك تصرفاتهم وأقوالهم التي تعكس فقدان التوازن والاعتدال. ويظهر في هذا السياق مثال لا للحصر السياسي الشمالي علي البخيتي، الذي تابعت له عدة فيديوهات، حيث يعبر بلغة حمقاء، غير متزنة، نابعة من فكر ضيق وموقف عقيم، مما يترك انطباعًا قاسيًا بأنهم ينظرون إلى الجنوبيين وكأنهم مجرد كائنات فاقدة للإنسانية.
إن هذا المشهد ليس مجرد تصرف فردي أو رأي شخصي، بل هو انعكاس ثقافي واجتماعي لمجتمع يرى مصالحه الضيقة فوق كل اعتبار إنساني. وفي الوقت نفسه، نجد أن بعض الجنوبيين للأسف يميلون إلى التمسك بالاختلاف إلى أقصى حد، غير قادرين على تحويله إلى خلاف بناء، ليتحول في النهاية إلى عداء يفاقم الانقسام ويزيد من هشاشة المواقف، بدلًا من أن يكون حافزًا للتعلم والارتقاء والمناقشة الواعية.
هنا تكمن مأساة الانقسام: أن يصبح الاختلاف سببًا للصدام، وأن يغيب الوعي بالمصلحة العليا في ثقافتنا كجنوبين ابتداءً من المواطن العادي إلى المستويات العليا على حد سواء. فالثقافة والوعي الناضج اللذان يضعان المصلحة الكبرى فوق كل اعتبار شخصي أو مصلحي أناني أو فئوي، هما ثقافة قوية، قادرة على تجاوز الأزمات، وإدارة الاختلافات بذكاء وحكمة، واستثمارها في تقوية المجتمع وبناء المستقبل، وليس في تدميره أو تشويهه.
الأزمة التي نعيشها اليوم تكشف لنا درسًا مهمًا: لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ويستمر بالعيش تحت تأثير النزاعات الثانوية، أو أن ينجو من التحديات الكبرى وهو منقسم داخليًا. إن القوة الحقيقية للشعوب تكمن في وعيها بالمصلحة العليا، وفي قدرتها على تحويل الخلاف إلى تنوع بنّاء، والاختلاف إلى نقاش عقلاني يخدم الجميع.
ولذلك يفرض السؤال نفسه: متى سنتعلم نحن الجنوبيون ثقافة المصالح الكبرى؟ متى سنضع مصلحة الوطن ومجتمعه فوق كل اعتبار ضيق أو شخصي؟ متى ندرك أن قوة الوحدة والوعي بالمصلحة العامة هي السبيل لتجاوز الأزمات وكشف ما وراء الأقنعة، والابتعاد عن الوقوع في شراك الصراعات العقيمة؟
إن القراءة الواعية للأحداث والمتابعة الدقيقة لتصرفات الآخرين تجعلنا ندرك حجم التحدي الحقيقي أمامنا. فهي دعوة للتفكير العميق، لإعادة ترتيب أولوياتنا، ولتثبيت ثقافة الحوار البناء بدل الانقسام والصراع الداخلي، حتى نستطيع أن نكون مجتمعًا ناضجًا، قادرًا على حماية مصالحه الكبرى والحفاظ على كرامته، بعيدًا عن نظرات الاحتقار أو الاستخفاف من الآخرين.
إنها دعوة صادقة للجنوبيين، ولكل من ينتمي إلى هذا الوطن، بأن يدركوا أن الوحدة والمصلحة العليا ليست مجرد شعارات، بل هي خيار استراتيجي، وقوة حقيقية لمواجهة التحديات، وتحويل الاختلافات إلى مصدر قوة لا ضعف، وبناء مجتمع متماسك قادر على الصمود أمام كل ما يهدده من صراعات داخلية أو خارجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق