تثير تصريحات الرئيس عيدروس الزبيدي حول إمكانية انضمام بعض المناطق الشمالية إلى الجنوب العربي جدلاً واسعًا في المشهد السياسي اليمني، إذ تمثل في جوهرها تحولًا في الخطاب السياسي الجنوبي من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والمبادرة، وهي في الوقت نفسه تحمل أبعادًا تتجاوز حدود التكتيك السياسي لتلامس عمق التحولات البنيوية في خريطة النفوذ والولاءات داخل اليمن.
أولاً، يمكن قراءة هذه التصريحات كـ مناورة سياسية محسوبة تهدف إلى إحداث اختراق في جدار الجمود السياسي القائم، وكشف واقع المعاناة الذي تعيشه تلك المناطق الواقعة بين سندان الإرث الإمامي الزيدي القديم ومطرقة الفساد والفوضى التي تمثلها قوى الإخوان وبقايا النظام العفاشي. فهذه المناطق – التي طالما كانت ساحة صراع بين مشاريع متناقضة – لم تنعم يومًا بإدارة وطنية رشيدة أو بنظام سياسي عادل، بل كانت دومًا ضحية لهيمنة المركز وسلطته التقليدية.
ثانيًا، جاءت تصريحات الزبيدي لتضع الطبقة السياسية الشمالية أمام مرآة الواقع، إذ أظهرت هشاشة تمثيلها في ما يسمى بحكومة "المناصفة" التي فرضتها الوساطات الإقليمية. فالشمال – في حقيقته – واقع تحت سلطة الحوثي، بينما القوى التي تزعم تمثيله عاجزة عن تحريره أو حتى التأثير في مساره، ناهيك عن عجزها الإداري والسياسي في إدارة ما تبقى من مناطق نفوذها.
أما ثالثًا، فتكشف الدعوة إلى انفتاح الجنوب على تلك المناطق عن مقاربة إنسانية وسياسية مزدوجة: فمن جهة، هي محاولة لإنقاذ سكان تلك المناطق من خطر الانزلاق مجددًا إلى براثن المشروع الحوثي الإيراني، ومن جهة أخرى، فتح نافذة أمل للانخراط في مشروع دولة فيدرالية جنوبية قادمة، تتبنى قيم العدالة والمواطنة والشراكة الحقيقية.
رابعًا، تتضمن هذه التصريحات رسالة استراتيجية مفادها أن الجنوب لا يسعى إلى الانعزال أو الانفصال بالمعنى الضيق، بل إلى بناء نموذج دولة جديدة تستوعب من يشترك معه في رؤية وطنية حديثة، تتجاوز الانقسامات المذهبية والمناطقية، وتعيد الاعتبار للهوية العربية والإسلامية الجامعة في مواجهة المشاريع الطائفية والإقليمية.
وأخيرًا، فإن ما بين سطور هذه الدعوة هو تحول في معادلة القوة والسياسة؛ من موقع الدفاع عن الجنوب وشرعيته، إلى المبادرة لاحتواء مناطق الشمال الراغبة في الخلاص من سلطات الفساد والاستبداد، بما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل لمفهوم الوحدة والسيادة من جديد، على أسس طوعية عادلة، لا على إملاءات القهر والهيمنة.
إنها ليست مجرد تصريحات إعلامية، بل مؤشر على لحظة فارقة قد تعيد رسم خريطة اليمن السياسية والجغرافية، وتفتح الباب أمام تحولات كبرى في معادلة النفوذ الإقليمي والدولي في المنطقة. الأيام القادمة وحدها كفيلة بإظهار ما إذا كانت هذه الدعوة بداية لمرحلة جديدة من الشراكة، أم مجرد جرس إنذار لنهاية مرحلة طال انتظار سقوطها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق