الهوية الحضرمية تعرضت خلال العقود الماضية لعملية تجريف ممنهجة أفقدتها كثيرًا من ملامحها الأصيلة، ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى استعادتها، لأنها تمثل خط الدفاع الأول ضد كل المشاريع الهدامة التي تستهدف الكيان الحضرمي والوطن الحضرمي بأسره. إن خطورة تجريف الهوية لا تكمن فقط في ضياع الخصوصية الثقافية، بل في تحويل أبناء حضرموت إلى وقود لمشاريع خارجية لا تمتّ لهم بصلة، وتضعف نسيجهم الاجتماعي الذي كان عبر التاريخ نموذجًا للتماسك والانفتاح والتسامح.
فالهوية ليست مجرد انتماء شكلي أو اسم يتردد في الخطابات، بل هي شعور جامع بما يجمعنا، وإحساس عميق بـ الانتماء إلى وطن فريد ومميز، وطن يحمل ذاكرة التاريخ وروح المكان، ويمثل امتدادًا طبيعيًا لقيم العزة والكرامة والعمل والعلم التي عُرف بها الحضارم منذ القدم. إن الوعي بالهوية هو ما يمنح المجتمع توازنه ويعيد له ثقته بذاته، لأنه الشعور الذي يجعل الإنسان يدرك أنه جزء من كيان أكبر، يحمل مسؤولية النهوض وحماية الأرض، لا مجرد انتماء عاطفي عابر.
إن هذه الهوية ليست مجرد ماضٍ نتغنى به، بل مشروع وطني مستقبلي يجب أن يثمر في بناء وطن مستقل جامع لأبناء حضرموت، وطن يضمن لهم حق العودة إلى أرضهم، ويجمع أبناء الشتات من مختلف أنحاء العالم على ترابهم الطاهر. فالحضارم، شأنهم شأن الفلسطينيين في نضالهم من أجل الحق والكرامة، يستحقون وطنًا قوميًّا يحتضن أبناءهم ويوحد شتاتهم، لتعود حضرموت كيانًا حيًا فاعلًا يحمل رسالته للمنطقة والعالم.
لقد أصبح التجريف الفكري متغلغلًا إلى حدٍ مؤلم، فلم يعد مقتصرًا على الداخل، بل امتد إلى الخارج أيضًا، حتى صار بعض أبناء المهجر الذين خرجوا حضارم بهويتهم الأصيلة يتعصبون اليوم لمشاريع لم يعيشوها ولم يفهموا حقيقتها. وهذا أمر خطير، لأنه يعني أن معركة الهوية لم تعد جغرافية فحسب، بل فكرية ووجدانية، تُخاض في كل مكان يتواجد فيه الحضرمي، سواء في الوطن أو في المهاجر.
من هنا، نحن في حاجة ماسة إلى ما يمكن تسميته بـ "إعادة ضبط مصنع الهوية الحضرمية"، لأن أي إصلاح سياسي أو مشروع وطني جامع لن ينجح ما لم ينبع من وعي حضرمي أصيل بخصوصيته وتاريخه وقيمه. فالهوية ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، وليست حنينًا إلى الماضي، بل هي منظومة قيم وسلوك ووعي بالذات، وتشكل الأساس لأي نهضة حضرمية حقيقية.
حضرموت كانت عبر القرون رمزًا للحكمة والعلم والعمل، وكانت هويتها هي سر قوتها وهيبتها ومكانتها. واليوم، إذا أردنا أن ننهض من جديد، فلا بد من صحوة حضرمية شاملة تعيد للإنسان الحضرمي ثقته بنفسه، وتجعله سيد قراره وصانع مستقبله، لا تابعًا لمشاريع الآخرين ولا أداة في أيدي الطامعين.
حفظ الله حضرموت وأهلها، وأعاد لها مجدها وهويتها التي حاولت الكثير من القوى طمسها.







ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق