لم يعد المشهد السياسي في الجنوب محكوماً فقط بتضارب الرؤى أو تفاوت الأولويات، بل بات أسيرَ محاولة فرض مشروع أحاديّ بالقوة، تحت غطاء المال والسلاح الخارجي. فالمجلس الانتقالي الذي قدم نفسه كممثلٍ سياسي للقضية الجنوبية انزلق تدريجيًا إلى نهج يعتمد على الإكراه والترهيب، حتى بات يسعى إلى تأديب كل من لا ينضوي تحت مظلته أو يشكك في مساره. هذه المقاربة لا تبني دولة ولا تحصد إجماعًا، بل تنتج عزلة سياسية ونزاعات داخلية تُضعف الجنوب وتهدد مستقبله.
الانتقالي رفع في شعاراته حق تقرير المصير، وحرية التعبير، وإقرار مسار سياسي يضمن العدالة والتمثيل. لكنه، حين يتعلق الأمر بحضرموت، يصادر تلك المبادئ ذاتها. كيف يمكن لجسمٍ سياسي يتحدث عن التحرر والاختيار الشعبي أن ينكر حق أبناء حضرموت — بكل تاريخهم ووزنهم الاقتصادي والاجتماعي — في التعبير عن رؤيتهم ومطالبهم؟ حضرموت لم تكن يومًا مجرد مساحة جغرافية، بل قوة ثقافية واقتصادية وشعبية وسياسية، واعتبارها هامشًا في مشروع سياسي قائم على التبعية يختصر الجنوب في حدود جغرافية قروية ضيقة، هو انتحار سياسي قبل أن يكون انتهاكًا أخلاقيًا.
إن الرغبة في استعادة الدولة الجنوبية لا تتحقق بمنطق الإقصاء أو بلغة "إما معنا أو ضدنا"، بل عبر احترام الشراكة وحقوق الشركاء. ومن أراد أن يقود الجنوب، فعليه أن يحتضن اختلافه قبل أن يطالب بولائه. فتح أبواب الصراع مع المكونات الجنوبية، وخصوصًا مع من يمثل حضرموت من القوى السياسية والاجتماعية وعلى رأسها حلف القبائل بقيادة بن حبريش، لا يعد سوى خطوة تعمّق الانقسام وتنسف اللحمة الوطنية. أي مشروع سياسي لا يمنح أبناء حضرموت مساحة للحديث عن حقوقهم اليوم، لن يقدم لهم دولة عادلة غدًا، ولن يخلق إلا طبقة متنفذة تستبدل الوصاية المركزية بوصاية مناطقية جديدة.
ما يفعله الانتقالي في حضرموت والمحافظات الشرقية ليس تعبيرًا عن مشروع وطني؛ بل هو تسييرٌ لخيارات لحظية تموَّل من الخارج وتدار بمنطق النفوذ لا بمنطق الدولة. والنتيجة تتجلى أمام الجميع: تراجع في القبول الاجتماعي، ضعفٌ في الامتداد السياسي، ونفورٌ متصاعد من مشروعٍ يرفع لواء القضية الجنوبية بينما يمارس ما يناقض جوهرها.
التاريخ لا يسجل الشعارات، بل يسجل المواقف والنتائج. وحين تُقدَّم المشاريع على أنها خلاصٌ ثم تُدار بعقلية إقصائية، فإنها تتحول من أداة للتحرير إلى سبب للانهيار. الجنوب الذي يحلم به أبناؤه لن يُبنى بالترهيب، بل بالحوار، ولن يقوم على العداء الداخلي، بل على الاعتراف بالتنوع والندية والحقوق المشتركة. وحين يدرك الانتقالي هذه الحقيقة، قد لا يجد متسعًا ليصحح مساره… أما إذا استمر في تجاهلها، فإن نهاية مشروعه لن تأتي من خصومه، بل من داخل الأرض التي يعتقد أنها ملكٌ لرايته وحدها.







ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق