المكلا / خاص :
إن الازمات المتراكمة في حضرموت وكل بلادنا ، تكشف عن معضلة مركبة واسعة، ذات جذور سيكولوجية ومؤسسية عميقة، تشكلت بفعل التاريخ السياسي المتخلف، وطبيعة نظام الحكم الإداري الهش، وهيمنة الخارج على القرار الوطني. و ان تجاوز هذه المشكلة المركبة يتطلب استراتيجية شاملة ومتعددة الأوجه، تركز على الإصلاح الهيكلي والثقافي، وتأخذ في الاعتبار الأبعاد الوطنية والإقليمية والدولية:
وسأقدم فيما يلي قراءة تحليلية معمّقة لهذه الظاهرة، متضمنة الأسباب، التجليات، النتائج، وأطر المعالجة الواقعية.
أولاً: السمات العامة للسلوك القيادي المنحرف :
1. غياب الالتزام بالقوانين واللوائح :
حيث لا يتحرك المسؤول وفق النظام العام أو قانون الخدمة المدنية، بل وفق اعتبارات شخصية، وعلاقات ولاء عمودي "للأعلى منه"، لا للمؤسسة أو المواطن.
2. ثقافة الإرضاء لا الأداء :
كل ما يهم الموظف القيادي هو البقاء في منصبه، بغض النظر عن الكفاءة أو الإنجاز، ما يدفعه لممارسة التزلف، والنفاق الإداري، وتضخيم التقارير الشكلية.
3. انعدام القيم المؤسسية :
مثل قيم النزاهة، المصلحة العامة، الجودة، الابتكار، فكلها مغيبة لحساب قيم النفاق، المحسوبية، الطاعة العمياء، والولاء السياسي أو القبلي أو الإقليمي.
4. الهرمية المريضة:
تسلسل السلطة أصبح شكليا وغير قانوني ، لا ضمانًا للرقابة والمساءلة والتوجيه. وكل مستوى لا يراقب من تحته بل يحوّل العلاقة إلى خدمة شخصية له، وليس للمواطنين.
5. الارتهان للخارج :
الرباعية والتحالف أصبحا قمة الهرم القيادي التراتبي في بلادنا ، ما يجعل معظم القيادات الوطنية تفكر بمنطق ومصلحة الخارج لا الداخل، وتخشى فقدان "الرضا الإقليمي" أكثر من غضب المواطن . كما إن انعدام الارتباط الوجداني والوطني مع بلادنا ، لدى المستويات العليا المتحكمة (التحالف والرباعية) ، وتفضيلهم مصالح أوطانهم فقط ، تسلط الضوء على عمق المشكلة لأن هذه القيادات لا تعمل بالضرورة لصالح كل بلادنا . وهذا يخلق فجوة ثقة عميقة بين القيادة المتحكمة في بلادنا والشعب المغلوب على أمره، و هذا لايخلق اي بادرة أمل في الإصلاح.
ثانياً: العوامل المسببة لهذا الانحراف:
1. انهيار المنظومة الوطنية بعد 2011 م :
شكلت احداث ٢٠١١م –رغم إدعاء مشروعيتها السياسية من البعض– لحظة انفلات هيكلي ، لم تُضبط بإصلاح مؤسسي عميق، بل فُتحت أبواب الوظائف العليا والدنيا للمحاصصة والترضيات فقط .
2. غياب دولة القانون منذ عقود :
حيث لم تكن القوانين هي المرجع، بل كانت مجرد أوراق تُنتقى وتُفسّر حسب الهوى الشخصي والمصلحة السياسية.
3. ثقافة "الزعيم" و"الوسيط" و"الشيخ":
حيث تكرست بدلاً من ثقافة الدولة الحديثة، فنرى ثقافة ما قبل الدولة هي التي ، تحكم سلوك القيادات ، من خلال الوساطات، المناطقية ، الروابط القبلية، والعلاقات والروابط العائلية والصداقاتية .
4. التدخل الخارجي الممنهج :
فالخارج لا يدعم بناء الدولة بل يستخدم نفوذه لصناعة مراكز قوى تابعة له، ويشجع القيادات الخانعة، لا الوطنية.
5. انعدام الوعي المؤسسي في المجتمع :
حيث نرى المواطن نفسه تعود على الشكوى من الظلم، لا على المطالبة المؤسسية بالحقوق، ولا يمارس دور الرقابة المجتمعية الفعالة.
ثالثاً: آثار هذه السلوكيات المنحرفة :
1. تحول الوظيفة العامة إلى وسيلة للعيش والتكسب والاغتناء والوجاهة ، لا خدمة للناس.
2. استبعاد و هروب الكفاءات وتهميش أصحاب الرؤية العلمية الصادقة والمثمرة .
3. ترسيخ الفساد بوصفه "أسلوب حياة" إداري.
4. انفصام العلاقة بين الدولة والمجتمع، مما يمهد للانهيار التام أو التفتت.
5. انعدام الثقة بأي مشروع إصلاحي قادم.
رابعاً: كيف نتجاوز هذه الانحرافات؟ (معالجات عملية وواقعية) وذلك من خلال :
1. إعادة تعريف الوظيفة العامة :
●جعل خدمة المواطن غاية، لا مجرد وسيلة للبقاء أو الترقية.
●إصدار ميثاق سلوك وظيفي وطني ملزم يُربط بالتقييم والمحاسبة.
2. تطهير الهيكل القيادي تدريجيًا :
●عبر الإقصاء الشامل للقيادات الفاسدة والمترهلة ، و إعادة هيكلة تدريجية ، بناءً على معايير العلم والكفاءة والخبرة والنزاهة.
●إدخال نظام تقييم دوري شفاف على الأداء.
3. استقلال القرار الوطني والإداري :
●إعادة تموضع القيادة السياسية والإدارية بعقل وطني مستقل بعيدا عن الوصاية الخارجية.
●تعزيز الشفافية في العلاقات مع الخارج وتقنينها.
4. إحياء الرقابة المجتمعية :
● تشجيع المنصات المدنية الإلكترونية لرقابة وتقييم ونقد الأداء العام.
وحماية الاعلاميين و الأفراد الذين يبلغون عن حالات الفساد، وعدم ملاحقتهم وارهابهم ، وتشجيع ثقافة الإبلاغ والمحاسبة.
●دعم حرية التعبير ومساءلة القيادات ، من الصحافة والنقابات والنخب.
5. استثمار النخب الوطنية والمؤهلة :
●إعطاء دور محوري للأكاديميين، والمثقفين، والتكنوقراط في إدارة الدولة.
●تحفيز الشباب الملتزم والواعي للمشاركة لا الهجرة.
6. تجسيد نموذج حضرمي وطني مستقل :
في حضرموت تحديدًا، يمكن البدء بنموذج حكم ذاتي رشيد يُبنى على قواعد الشفافية والفاعلية، ويضع حدًا لهذا الانحراف ضمن إطاره المحلي.
خامساً: خلاصة عامة :
ما نواجهه ليس مجرد سلوك فردي منحرف بل نسق سيكولوجي وإداري فاسد، نتج عن تراكم تاريخي، واستمر عبر منظومات سياسية ومؤسسية مختلة، وبارتباطات خارجية تعمق تبعية القرار.
ولذلك فإن أي تغيير حقيقي يتطلب استراتيجية ثلاثية الأبعاد:
●تفكيك المنظومة القديمة الفاسدة،
●وبناء منظومة وظيفية جديدة تستند إلى القيم الوطنية والمؤسسية والإخلاقية،
●وضمان حماية القرار من الابتزاز السياسي والهيمنة الخارجية.
إن المشكلة في بلادنا معقدة ومركبة، وتتطلب صبرًا ومثابرة وعملًا متكاملًا على كل المستويات. والعودة إلى جادة الصواب تبدأ بإرادة سياسية حقيقية للإصلاح، مدعومة بوعي مجتمعي ضاغط وقادر على فرض التغيير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق