في المشهد الجنوبي اليوم، تتكرر لغة التحشيد والوعيد ضد أبناء حضرموت وكأن حقوقهم ومطالبهم جريمة تستدعي المواجهة بالسلاح. بينما ما يطرحه الحضارم لا يتجاوز حدود المطالب المشروعة التي طالب بها الجنوبيون أنفسهم لعقود تجاه الدولة المركزية، نجد أن الجهة التي ترفع شعارات “استعادة الحقوق الجنوبية” هي نفسها من تقف بكل صلابة ضد المطالب الحضرمية المحلية. وهنا تظهر مفارقة تجعل سؤال الشرعية والمصلحة سؤالاً ملحاً: من يمثل من؟ ولصالح من تُدار المعارك السياسية والعسكرية في الشرق اليمني؟
المجلس الانتقالي، الذي يقدم نفسه كحامل للمشروع الجنوبي، بات يقف على الطرف النقيض من المجتمع الحضرمي. فبدلاً من الإصغاء للمطالب الشعبية التي تقوم على إدارة حضرمية لمصيرها واقتصادها وأمنها، يلجأ الانتقالي إلى خطاب القوة والتخوين والتهديد بسفك الدماء. هذه المقاربة العسكرية لا تعبّر عن ثقة، بل عن خوف من ولادة مركز ثقل جنوبي جديد خارج نطاقه، مركز لا يخضع لولاءات عابرة للحدود بل يرتكز على عمق اجتماعي وتاريخي في الشرق.
التجربة في المحافظات الشرقية، وبخاصة شبوة، تكشف المزيد. تُستخدم شعارات محاربة “الإخوان المسلمين” و”اجتثاث المنطقة العسكرية الأولى” كغطاء لتمرير أجندات لا علاقة لها بالاستقرار أو الأمن. فمنذ سنوات تُرفع هذه اللافتات لإقناع الشارع الجنوبي بأن المشكلة تكمن في قوى بعينها، بينما الواقع يكشف أن ما يجري هو إعادة هندسة للخارطة المحلية بما يخدم مصالح قوى خارجية تتلاعب بالملفات اليمنية تباعاً.
بل إن المفارقة الأكبر تتمثل في حماية تلك القوى الخارجية لرموز الأحزاب اليمنية ولقيادات حكومية كانت تُتهم بأنها جزء من المشكلة. وفي الوقت الذي تُصوَّر فيه المنطقة العسكرية الأولى كبعبع وجودي، نجد الانتشار العسكري الحقيقي موجهاً نحو مناطق النفط والمنشآت الحساسة، لا نحو بؤر “الخصوم” المفترضين. في شبوة، على سبيل المثال، تُذكر قوات “ضرمان” كقوة تتولى حماية منشآت النفط وتأمين محيطها، في حين يتمركز الانتقالي بقواته بالقرب منها، ويتحرك بكل أريحية في الجغرافيا، دون أن تُطرح عليه أي مساءلة أو مواجهة كما تُطرح على القوى المحلية.
يتحول النفوذ العسكري هنا إلى وسيلة لإعادة توزيع القوة السياسية، لا إلى أداة لحماية المجتمع. فالتهديد المباشر للقبائل والقوى الاجتماعية في حضرموت، وإقصاء الأصوات التي تنادي بتمكين أهل الأرض من مواردهم، ليس إلا محاولة للالتفاف على حقيقة أن الشرعية الاجتماعية لا تُصنع في المعسكرات بل في توازنات المجتمع نفسه. وحين لا يجد المجلس الانتقالي بيئة حاضنة لخطابه في الشرق، يلجأ إلى “فزّاعات” أيديولوجية لتبرير القمع، بينما تُسحق المطالب المحلية تحت أقدام شعارات فضفاضة.
إن هذا المسار، مهما جرى تزيينه بشعار “المشروع الجنوبي”، لن يخدم الانتقالي، بل سيعزله. فالقوى التي تعمل وفق رؤية تلامس المجتمع وتقدم له ما يحتاجه — من خدمات، وشراكات أمنية واقتصادية، واحترام للهياكل القبلية والاجتماعية — هي من ستتمدد وتتحول إلى ركائز حقيقية في مستقبل المحافظات الشرقية. أما من يختار العنف والعصبويات والتصعيد ضد الحضارم، فسيفاجأ بأن الأرض التي يحاول السيطرة عليها ليست مجرد مساحة جغرافية، بل مجتمع متماسك يعرف تماماً من يقف معه ومن يقف ضده.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً لكل من يلوّح بالسلاح ضد حضرموت: هل تريدون بناء جنوب قوي ومتوازن؟ أم ترضخون لمشروع خارجي يعيد تدوير النزاعات بالوكالة ويترك اليمنيين يتصارعون على فتات الدعاية، بينما تُحمى المنشآت النفطية وتُصان المصالح الاستراتيجية دون أن يكون لأبناء الأرض رأي فيها؟ الإجابة لن تُقاس ببيانات التهديد، بل بما يحدث على الأرض، وبمن يخدم الناس فعلاً… ومن يستخدمهم مجرد أوراق في لعبة ليست لهم.







ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق